الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن الجوزي في الآيات السابقة: قوله تعالى: {مُنيبين إليه}.قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم منيبين، لأن مخاطَبة النبي صلى الله عليه وسلم تدخل معه فيها الأُمَّة ومعنى {منيبين} راجعين إليه في كل ما أمر، فلا يخرجون عن شيء من أمره.وما بعد هذا قد سبق تفسيره [البقرة: 3، الأنعام: 159] إلى قوله: {وإذا مَسَّ الناسَ ضُرٌّ دَعَوا ربَّهم مُنيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمةً} وفيه قولان:أحدهما: أنه القحط، والرحمة: المطر.والثاني: أنه البلاء، والرحمة: العافية، {إذا فريق منهم} وهم المشركون.والمعنى: إن الكل يلتجؤون إليه في شدائدهم، ولا يلتفت المشركون حينئذ إلى أوثانهم.قوله تعالى: {ليَكفُروا بما آتيناهم} قد شرحناه في آخر [العنكبوت: 67]، وقوله تعالى: {فتَمتَّعوا} خطاب لهم بعد الإخبار عنهم.قوله تعالى: {أم أنزَلْنا عليهم} أي: على هؤلاء المشركين {سُلطانًا} أي: حُجَّة وكتابًا من السماء {فهو يتكلَّم بما كانوا به يُشْركون} أي: يأمرهم بالشّرك؟! وهذا استفهام إنكار، معناه: ليس الأمر كذلك.قوله تعالى: {وإذا أذقنا الناس} قال مقاتل: يعني كفار مكة {رحمةً} وهي المطر.والسيّئة: الجوع والقحط.وقال ابن قتيبة: الرحمة: النعمة، والسيّئة المصيبة.قال المفسرون: وهذا الفرح المذكور هاهنا، هو فرح البطر، الذي لا شُكر فيه، والقنوط: اليأس من فضل الله، وهو خلاف وصف المؤمن، فانه يشكر عند النعمة، ويرجو عند الشدة؛ وقد شرحناه في بني [إسرائيل: 26] إلى قوله: {ذلك} يعني إعطاء الحق {خير} أي: أفضل من الإمساك {للذين يريدون وجه الله} أي: يطلُبون بأعمالهم ثواب الله.قوله تعالى: {وما آتيتم من ربًا} في هذه الآية أربعة أقوال.أحدها: أن الرّبا هاهنا: أن يُهدي الرجل للرجل الشيء يقصد أن يُثيبه عليه أكثر من ذلك، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وطاووس، والضحاك، وقتادة، والقرظي.قال الضحاك: فهذا ليس فيه أجر ولا وزر.وقال قتادة: ذلك الذي لا يَقبله الله ولا يَجزي به، وليس فيه وزْر.والثاني: أنه الرّبا المحرَّم، قاله الحسن البصري.والثالث: أن الرجل يُعطي قرابته المال ليصير به غنيًّا، لا يقصد بذلك ثواب الله تعالى، قاله إبراهيم النخعي.والرابع: أنه الرجل يُعطي من يخدمه لأجل خدمته، لا لأجل الله تعالى، قاله الشعبي.قوله تعالى: {ليَرْبُوَ في أموال الناس} وقرأ نافع، ويعقوب: {لتَرْبوْ} بالتاء وسكون الواو، أي: في اجتلاب أموال الناس، واجتذابها {فلا يربو عند الله} أي: لا يزكو ولا يضاعَف، لأنكم قصدتم زيادة العوَض، ولم تقصُدوا القُربة.{وما آتيتم من زكاة} أي: ما أَعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة، إنما تريدون بها ما عند الله، {فأولئك هم المُضْعفُونَ} قال ابن قتيبة: الذين يجدون التضعيف والزيادة.وقال الزجاج: أي ذوو الأضعاف من الحسنات، كما يقال: رجل مُقْوٍ، أي: صاحب قُوَّة، ومُوسر: صاحب يسار. اهـ..قال أبو حيان في الآيات السابقة: {وَإذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنيبينَ إلَيْه}.الضر: الشدة، من فقر، أو مرض، أو قحط، أو غير ذلك؛ والرحمة: الخلاص من ذلك الضر.{دعوا ربهم} أفردوه بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى، فلهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع، وإذا خلصهم من ذلك الضر، أشرك فريق ممن خلص، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام.قال ابن عطية: ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين، إذ جاءهم فرج بعد شدة، علقوا ذلك بمخلوقين، أو بحذق آرائهم، أو بغير ذلك، ففيه قلة شكر الله، ويسمى مجازًا.وقال أبو عبد الله الرازي: يقول: تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهرًا، فإنه شرك خفي. انتهى.و{إذا فريق} جواب {إذا أذاقهم} الأولى شرطية، والثانية للمفاجأة، وتقدم نظيره، وجاء هنا فريق، لأن قوله: {وإذا مس الناس} عام للمؤمن والكافر، فلا يشرك إلا الكافر.وضر هنا مطلق، وفي آخر العنكبوت {إذا هم يشركون} لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام، والضر هناك معين، وهو ما يتخوف من ركوب البحر.{إذا هم} أي ركاب البحر عبدة الأصنام، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده.واللام في {ليكفروا} لام كي، أو لام الأمر للتهديد، وتقدم نظيره في آخر العنكبوت.وقرأ الجمهور: {فتمتعوا فسوف تعلمون} بالتاء فيهما.وقرأ أبو العالية: فيتمتعوا، بالياء، مبنيًا للمفعول، وهو معطوف على {ليكفروا}.فسوف يعلمون: بالياء، على التهديد لهم.وعن أبي العالية: فيتمتعوا، بياء قبل التاء، عطف أيضًا على {ليكفروا} أي لتطول أعمارهم على الكفر؛ وعنه وعن عبد الله: فليتمتعوا.وقال هارون في مصحف عبد الله: يمتعوا.{أم أنزلنا} أم: بمعنى بل، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق، والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ.والسلطان: البرهان، من كتاب أو نحوه.{فهو يتكلم} أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم، والتكلم مجاز لقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} وهو يتكلم: جواب للاستفهام الذي تضمنه أم، كأنه قال: بل أنزلنا عليهم سلطانًا، أي برهانًا شاهدًا لكم بالشرك، فهو يشهد بصحة ذلك، وإن قدر ذا سلطان، أي ملكًا ذا برهان، كان التكلم حقيقة.{وإذا أذقنا الناس رحمة} أي نعمة، من مطر، أو سعة، أو صحة.{وإن تصبهم سيئة} أي بلاء، من حدث، أو ضيق، أو مرض.{بما قدمت أيديهم من} المعاصي.{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ففي إصابة الرحمة فرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم، وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر، ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء.و{إذا هم} جواب: {وإن تصبهم} يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جوابًا للشرط.وحين ذكر إذاقة الرحمة، لم يذكر سببها، وهو زيادة الإحسان والتفضل.وحين ذكر إصابة السيئة، ذكر سببها، وهو العصيان، ليتحقق بدله.ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض، فينبغي أن لا يقنط، وأن يتلقى ما يرد من قبل الله بالصبر في البلاء، والشكر في النعماء، وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها، حتى تعود إليه رحمة ربه.ومناسبة {فآت ذا القربى} لما قبله: أنه لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض، وجعل في ذلك آية للمؤمن، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج، لأن من الإيمان الشفقة على خلق الله، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله من المال، وصرفه إلى من يقرب منه من حج، وإلى غيره من مسكين وابن سبيل.وقال الحسن: هذا خطاب لكل سامع بصلة الرحم، {والمسكين وابن السبيل}.وقيل: للرسول، عليه السلام.وذو القربى: بنو هاشم وبنو المطلب، يعطون حقوقهم من الغنيمة والفيء.وقال الحسن: حق المسكين وابن السبيل من الصدقة المسماة لهما.واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب.أثبت تعالى لذي القربى حقًا، وللمسكين وابن السبيل حقهما.والسورة مكية، فالظاهر أن الحق ليس الزكاة، وإنما يصير حقًا بجهة الإحسان والمواساة.وللاهتمام بذي القربى، قدم على المسكين وابن السبيل، لأن بره صدقة وصلة.{ذلك} أي الإيتاء، {خير} أي يضاعف لهم الأجر في الآخرة، وينمو ما لهم في الدنيا لوجه الله، أي التقرب إلى رضا الله لا يضره.ثم ذكر تعالى من يتصرف في ماله على غير الجهة المرضية فقال؛ {وما آتيتم} أكلة الربو، ليزيد ويزكو في المال، فلا يزكو عند الله، ولا يبارك فيه لقوله: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} قال السدّي: نزلت في ربا ثقيف، كانوا يعملون بالربا، ويعمله فيهم قريش.وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وطاوس: هذه الآية نزلت في هبات، للثواب..قال أبو السعود في الآيات السابقة: {منيبين إلَيْه} حالٌ من الضَّمير في النَّاصب المقدَّر لفطره الله أو في أقم لعمومه للأمَّة حسبما أُشير إليه وما بينَهما اعتراضٌ أي راجعين إليه من أنابَ إذَا رجعَ مرَّةً بعدَ أُخرى. وقولُه تعالى: {واتقوه} أي من مخالفة أمره.عطفٌ على المقدَّر المذكور. وكذا قولُه تعالى: {وَأَقيمُوا الصلاة وَلاَ تَكُونُوا منَ المشركين} المبدّلين لفطرة الله تعالى تبديلًا {منَ الذين فَرَّقُوا دينَهُمْ} بدلٌ من المشركينَ بإعادة الجارّ. وتفريقُهم لدينهم اختلافُهم فيما يعبدونَه على اختلاف أهوائهم. وفائدةُ الإبدال التَّحذيرُ عن الانتماء إلى حزبٍ من أحزاب المشركينَ ببيان أنَّ الكلَّ على الضَّلال المبين وقُرئ فارقُوا أي تركُوا دينَهم الذي أُمروا به {وَكَانُوا شيَعًا} أي فرقًا تشايعُ كلٌّ منها إمامَها الذي أضلَّها {كُلُّ حزْبٍ بمَا لَدَيْهمْ} من الدين المعوج المؤسَّس على الرَّأي الزَّائغ والزَّعم الباطل {فَرحُونَ} مسرورون ظنًَّا منهم أنَّه حقٌّ وأَنَّى له ذلك. فالجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمون ما قبله من تفريق دينهم وكونهم شيعًا وقد جُوّز أنْ أن يكونَ فرحون صفةً لكلُّ على أنَّ الخبرَ هو الظرفُ المقدَّمُ أعني من الذين فرَّقُوا ولا يخفى بعدُه.{وَإذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} أي شدَّةٌ {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنيبينَ إلَيْه} راجعينَ إليه من دعاء غيره {ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} خلاصًا من تلك الشدَّة {إذَا فَريقٌ مّنْهُمْ برَبّهمْ} الذي كانُوا دَعَوه منيبين إليه {يُشْركُونَ} أي فاجأ فريقٌ منهم الإشراكَ وتخصيصُ هذا الفعل ببعضهم لما أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا نجاهم إلَى البر فَمنْهُمْ مُّقْتَصدٌ} أي مقيمٌ على الطَّريق القصد أو متوسطٌ في الكفر لانزجاره في الجُملة {ليَكْفُرُوا بمَآ ءاتيناهم} اللامُ فيه للعاقبة وقيل للأمر التَّهديديّ كقوله تعالى: {فَتَمَتَّعُوا} غيرَ أنَّه التفتَ فيه للمبالغة وقرىء وليتمتَّعوا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ تمتُّعكم. وقُرئ بالياء، على أنَّ تمتَّعوا ماضٍ والالتفاتُ إلى الغَيبة في قوله تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهمْ} للإيذان بالإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المُباثّة {سلطانا} أي حجَّةً واضحةً وقيل: ذا سلطانٍ أي مَلَكًا معه برهانٌ {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} تكلُّمَ دلالةٍ كما في قوله تعالى: {هذا كتابنا يَنطقُ عَلَيْكُم بالحق} أو تكلُّمَ نطقٍ {بمَا كَانُوا به يُشْركُونَ} بإشراكهم به تعالى أو بالأمر الذي بسببه يُشركون. {وَإذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} أي نعمة من صَّحةٍ وسَعَةٍ {فَرحُوا بهَا} بَطَرًا وأشَرًا لا حَمْدًا وشُكْرًا {وَإن تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ} شدَّةٌ {بمَا قَدَّمَتْ أَيْديهمْ} بشؤم معاصيهم {إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجؤوا القُنوطَ من رحمته تعالى وقُرئ بكسر النُّون.{أَوَلَمْ يَرَوْا} أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا {أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لمَن يَشَاء وَيَقْدرُ} فما لهم لم يشكرُوا ولم يحتسبُوا في السَّرَّاء والضَّرَّاء كالمؤمنينَ {إنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} فيستدلُّون بها على كمال القدرة والحكمة.{فَئَات ذَا القربى حَقَّهُ} من الصلة والصدقة وسائر المَبَرَّات {والمساكين وابن السبيل} ما يستحقَّانه والخطابُ للنبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام أو لمن بُسط له كما تُؤذن به الفاءُ {ذَلكَ خَيْرٌ لّلَّذينَ يُريدُونَ وَجْهَ الله} ذاتَه أو جهتَه ويقصدون بمعروفهم إيَّاه تعالى خالصًا أو جهةَ التقرب إليه لا جهةً أُخرى {وأولئك هُمُ المفلحون} حيث حصَّلْوا بما بُسط لهم النَّعيمَ المُقيمَ {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن ربًا} زيادةٌ خاليةٌ عن العوض عند المعاملة وقُرئ أتيتُم بالقصر أي غشيتمُوه أو رهقتمُوه من إعطاء ربًا {لّيَرْبُوَا في أَمْوَال الناس} ليزيدَ ويزكو في أموالهم {فَلاَ يَرْبُوا عَندَ الله} أي لا يُبارك فيه وقُرئ لتربُوا أي لتزيدُوا أو لتصيرُوا ذوي ربا {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُريدُونَ وَجْهَ الله} أي تبتغُون به وجهَه تعالى خالصًا {فَأُوْلَئكَ هُمُ المضعفون} أي ذُوو الأضعاف من الثَّواب ونظيرُ المُضْعف المُقْوى والموسر لذي القوة واليسار أو الذين ضعّفوا ثوابَهم وأموالَهم بالبركة. وقُرئ بفتح العين، وفي تغيير النَّظم الكريم والالتفات من الجَزَالة ما لا يَخْفى. اهـ.
|